فصل: تفسير الآيات (80- 81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (80- 81):

{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)}
قوله عز وجل: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} المراد منهما الإدخال والإخراج قال ابن عباس: معناه أدخلني مدخل صدق المدينة وأخرجني مخرج صدق من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة. وقيل: معناه أخرجني من مكة آمناً من المشركين، وأدخلني مكة ظاهراً عليها بالفتح، وقيل: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق، وأخرجني من الدنيا، وقد قمت بما وجب علي من حق النبوة مخرج صدق وقيل: معناه أدخلني في طاعتك مدخل صدق وأخرجني من المناهي مخرج صدق وقيل: معناه أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق، وأخرجني بالصدق ولا تجعلني ممن يخرج بوجه ويدخل بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون آمناً عند الله {واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} أي حجة بينة وقيل: ملكاً قوياً تنصرني به على من عاداني وعزاً ظاهراً أقيم به دينك فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما ويجعله له، وأجاب دعاءه فقال له والله يعصمك من الناس، وقال يظهره على الدين كله وقال: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية. قوله تعالى: {وقل جاء الحق} يعني الإسلام والقرآن {وزهق الباطل} أي الشرك والشيطان {إن الباطل كان زهوقاً} أي مضمحلاً غير ثابت، وذلك أن الباطل وإن كان له دولة وصولة في وقت من الأوقات فهو سريع الذهاب والزوال.
(ق) عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها يعود في يده ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}.

.تفسير الآيات (82- 84):

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)}
قوله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء} من في قوله تعالى من القرآن لبيان الجنس والمعنى: ننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن ما هو شفاء أي بيان من الضلالة الجهالة، يتبين به المختلف فيه ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة وهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها. وقيل: هو شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة، وذلك لأنها تنقسم إلى نوعين أحدهما الاعتقادات الباطلة، والثاني الأخلاق المذمومة أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فساداً والاعتقادات الفاسدة في الذات والصفات والنبوات والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه الأشياء وابطال المذاهب الفاسدة، لا جرم، كان القرآن شفاء لما في القلوب من هذا النوع. وأما النوع الثاني: وهو الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على التنفير منها، والإرشاد إلى الأخلاق المحمودة والأعمال الفاضلة، فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الباطنة وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض. يدل عليه ما روي عن البني صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب، «وما يدريك أنها رقية» {ورحمة للمؤمنين} لما كان القرآن شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة، فهو جدير بأن يكون رحمة للمؤمنين {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} لأن الظالم لا ينتفع به، والمؤمن ينتفع به فكان رحمة للمؤمنين وخساراً للظالمين، وقيل: لأن كل آية تنزل يتجدد لهم تكذيب بها فيزداد خسارهم قال قتادة: لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاه الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً. قوله سبحانه وتعالى: {وإذا أنعمنا على الإنسان} أي بالصحة والسعة {أعرض} أي عن ذكرنا ودعائنا {ونأى بجانبه} أي تباعد منا بنفسه وترك التقرب إلينا بالدعاء وقيل: معناه تكبر وتعظيم {وإذ مسه الشر} إي الشدة والضر {كان} أي يائساً قنوطاً، وقيل: معناه إنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة، فإذا تأخرت الإجابة يئس فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء ولو تأخرت الإجابة. قوله عز وجل: {قل كل} أي كل أحد {يعمل على شاكلته} قال ابن عباس: على ناحيته. وقيل: الشاكلة الطريقة أي على طريقته التي جبل عليها، وفيه وجه آخر وهو أن كل إنسان يعمل على حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة، صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية طاهرة وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً} أي أوضح طريقاً وأحسن مذهباً واتباعاً للحق.

.تفسير الآيات (85- 88):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}
قوله سبحانه وتعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي}.
(ق) عن عبد الله بن مسعود قال: بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوكاً على عسيب معه فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. وقال بعضهم: لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون فقاموا إليه، وفي رواية، فقام إليه رجل منهم فقال: يا ابا القاسم ما الروح؟ فسكت وفي رواية، فقالوا حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينتظر الوحي، وعرفت أنه يوحى إليه فتأخرت حتى صعد الوحي قال: ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر بي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً. فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وفي رواية وما أتوا من العلم إلا قليلاً. قال الأعمش هكذا في قراءتنا. العسيب: جريد النخل وسعفه. وقال ابن عباس: إن قريشاً اجتمعوا وقالوا إن محمداً نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط، وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها، أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحد فهو نبي فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم، فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها ما خبره وعن الروح قال فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبركم بما سألتم غداً، ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي. قال مجاهد: اثني عشر يوماً وقيل: خمسة عشر يوماً وقيل أربعين يوماً وأهل مكة يقولون: قد وعدنا محمداً غداً وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} ونزل في الفتية {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً} نزل فيم بلغ المشرق والمغرب، قوله: {ويسألونك عن ذي القرنين} ونزل في الروح {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} واختلفوا في الذي وقع السؤال عنه، فروي عن ابن عباس أنه جبريل وعن علي أنه ملك له سبعن ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بكلها. وقال مجاهد: خلق على صورة بني آدم، لهم أيد وأرجل ورؤوس ليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام. وقال سعيد بن جبير لم يخلق الله خلقاً أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات والأرض ومن فيها بلقمة واحدة لفعل ذلك صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، يقوم يوم القيامة على يمين العرش، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى اليوم عند الحجب السبعين وأقرب الخلق إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد، ولولا أن بينه وبين الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السموات من نوره.
وقيل: الروح هو القرآن لأن الله سماه روحاً ولأن به حياة القلوب. وقيل: هو الروح المركب في الخلق الذي به يحيى الإنسان وهو أصح الأقوال. وتكلم قوم في ما هية الروح فقال بعضهم: هو الدم ألا ترى أن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم. وقال قوم: هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس. وقال قوم: هو عرض. وقال قوم: هو جسم لطيف يحيا به الإنسان. وقيل: الروح معنى اجتمع فيه النور الطيب والعلم والعلو والبقاء، إلا ترى أنه إذا كان موجوداً يكون الإنسان موصوفاً بجميع هذه الصفات إذا خرج منه ذهب الكل. وأقاويل الحكماء والصوفية في ما هية الروح كثيرة، وليس هذا موضع استقصائها وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل هو قول أهل السنة قال عبد الله بن بريدة: إن الله لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً بدليل قوله: {قل الروح من أمر ربي} أي من علم ربي الذي استؤثر به {وما أوتيتم من العلم} من علم ربي {إلا قليلاً} أي في جنب علم الله عز وجل الخطاب عام. وقيل: هو خطاب لليهود فإنهم كانوا يقولون: أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير، فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله. وقيل إن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة فوصف الشيء بالقلة مضافاً إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك الإخبار به كان علماً لنبوته. والقول الأصح هو أن الله عز وجل استأثر بعلم الروح. قوله عز وجل: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} ومعناه أنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك، إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف، فلم نترك له أثراً وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب {ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً} معناه لا تجد بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده عليك، وإعادته محفوظاً مستوراً {إلا رحمة من ربك} معناه إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك وقيل هو على الاستثناء المنقطع. معناه لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً، فإن قلت كيف يذهب بالقرآن وهو كلام الله عز وجل؟ قلت: المراد منه محو ما في المصاحف وإذهاب ما في الصدور وقال عبد الله بن مسعود: «اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع» قيل: هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الناس قال: يسرى عليه ليلاً فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئاً، ولا يجدون مما في المصاحف شيئاً ثم يفيضون في الشعر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل له دوي حول العرش كدوي النحل، فيقول الرب: ما لك؟ فيقول: يارب أُتلى ولا يُعمل بي».
{إن فضله كان عليك كبيراً} أي بسبب بقاء العلم والقرآن عليك وجعلك سيد ولد آدم، وختم النبيين بك وإعطائك المقام المحمود. قوله سبحانه وتعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتو بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} أي لا يقدرون على ذلك {ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} أي عوناً. نزلت حين قال المشركون: لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله عز وجل، فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه كلام الخالق وهو غير مخلوق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله.

.تفسير الآيات (89- 93):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)}
قوله عز وجل: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} أي رددنا وكررنا من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. وقيل: معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيره {فإبى أكثر الناس إلا كفوراً} أي جحوداً. قوله سبحانه وتعالى: {وقالوا لن نؤمن لك} أي لن نصدقك {حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه معجزات أخر وبينات، ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتغالون باقتراح الآيات، فقالوا: لن نؤمن لك. روى عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل، ونبيهاً ومنبهاً أبني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إليّ محمداً فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء، وكان حريصاً يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا: «يا محمد إن بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك. لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، ما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى أكثرنا مالاً وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئي تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ونعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن ترده عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم فقالوا: يا محمد إن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلاداً ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا ويفجر لنا فيها الأنهار كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك صدقناك. فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به، فإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردوه أصبر لأمر الله تعالى قالوا: فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكاً يصدقك، وسله أن يجعل لك جنات وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يعينك بها على ما تريد، فإنك بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه فقال: ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً. قالوا: فأسقط السماء كما زعمت إن ربك إن شاء فعل. فقال: ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم» وقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية، هو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفهسم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تجعل ما تخوفهم به من العذاب، فلم تفعل فوالله ما أؤمن لك أبداً حتى تتخذ إلى السماء مرقى ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها فتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً من مباعدتهم فأنزل الله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض} يعني أرض مكة {ينبوعاً} أي عيوناً أو {أو تكون لك جنة من نخيل وعنب} أي بستان فيه نخيل وعنب {فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً} أي تشقيقاً {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً} أي قطعاً {أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} قال ابن عباس: كفيلاً أي يكفلون بما تقول. وقيل هو جمع القبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، يشهدون لك بصحة ما تقول. وقيل: معناه تراهم مقابلة عياناً {أو يكون لك بيت من زخرف} أي من ذهب وأصله الزينة {أو ترقى} أي تصعد {في السماء ولن نؤمن لرقيك} أي لأجل رقيك {حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه} أمرنا فيه باتباعك وهذا قول عبد الله بن أبي أمية {قل} أي قل يا محمد {سبحان ربي} أمره بتنزيهه وتمجيده وفيه معنى التعجب {هل كنت إلا بشراً رسولاً} أي كسائر الرسل لأممهم وكان الرسل لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إليهم إنما هو إلى الله تعالى، ولو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعلن ولكن لا ينزل الآيات على ما اقترحه البشر وما أنا إلا بشر، وليس ما سألتم في طرق البشر واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله، مثل القرآن وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وما أشبهها من الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم مما اقترحوه والقوم عامتهم كانوا متعنتينن ولم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فرد الله تعالى عليهم سؤالهم.